في ختام شهر أوت 2007، نالني شرف تعييني أول رئيس مدير عام للإذاعة التونسية بعد أن تقرر فصل الإذاعة والتلفزة التونسيتين، ويبقى القرار صائبا في رأيي المتواضع لما يوفره لكلتا المؤسستين من استقلالية في العمل دون التغاضي عن فوائد التعاون والتكامل التي يحكمها، بفعل الفصل، قواعد التكافؤ وتساوي الحظوظ، كل مؤسسة على قدر عزم العاملين بها والمشرفين عليها.
ولم يكن من الصعب ملاحظة العناية الفائقة والاهتمام الكبير، في السياسة العامة لمؤسسة الإذاعة والتلفزة سابقا، بقطاع التلفزة خاصة على حساب الإذاعة وفي نفس القطاع بالقناة الوطنية الأولى، قناة 7 سابقا، على حساب القناة الثانية، قناة 21 سابقا. لذلك يمكن الإقرار باستفادة الإذاعة من قرار الفصل، خاصة من حيث التحديات الجديدة التي وجب عليها رفعها للنجاح في المهام الموكولة إليها ولبلوغ الأهداف المرسومة لها.
ومن الأولويات التي ارتأيناها عند الانطلاقة الجديدة، تجميع جهود الطاقات المتحمسة والملتزمة حول منطق الفريق الواحد المتعدد الأطراف، تعدد الإذاعات التسع والمصالح الفرعية الأخرى الملحقة برئاسة المؤسسة، مؤسسة الإذاعة التونسية، مثل الاتصال ورقمنة الأرشيف ومصلحة الموسيقى ومختلف الإدارات والمصالح الإدارية والمالية (مثل العلاقات الخارجية والإدارة التجارية) المجمعة في الكتابة العامة للمؤسسة. لذلك توجب الإسراع في وضع تنظيم إداري يحكم هذه الهيكلة المتأكدة وهو ما تم فعلا في غضون بعض الأشهر، كما تم تصور وإنجاز العلامات المميزة (logos) للإذاعة التونسية وإذاعاتها التسع باجتهاد فني متميز من فريق شبابي مختص داخل المؤسسة.
وبناء على منطق تساوي الحظوظ بين مختلف الإذاعات، تم، انطلاقا من ميزانية 2008، إقرار حد أدنى لميزانية كل إذاعة جهوية يمكّنها من التصرف الذاتي بأريحية، مع تحفيز كل إذاعة بنسبة هامة مما يتأتى عن طريقها لمداخيل الإشهار، التي عرفت تطورا ملحوظا جعلها تمر من قيمة كانت تقدر بحوالي مليون ومائتي ألف دينار، إلى أكثر من 4 مليون دينار في أقل من سنتين، وذلك بفضل إدارة تجارية جديدة تفانت في العمل بجد وحرص وحرفية تذكر فتشكر. وكانت مختلف الإدارات الفرعية والمصالح تعمل بنفس الروح في تناغم وتكامل لا يخفيان بعض المشاكل الظرفية ولكنهما يذكّران دوما أن الإذاعة التونسية قادرة، بالأمس واليوم، على تحقيق أجمل وأكبر الطموحات متى عقدت العزم على ذلك.
هذا وتَصادف التنظيم الجديد للمؤسسة مع مشارف الذكرى السبعين لتأسيس الإذاعة التونسية (1938 – 2008)، فتقرر استنباط الحدث الإذاعي المميز لهذه الاحتفالية بما يسهم باستعادة إشعاع الإذاعة وإبراز ديمومة أهميتها وخطورة دورها، مهما تطورت التقنيات الحديثة التي لا يمكن إلا الاستفادة منها إذاعيا، ومهما برزت ونمت الوسائط الاتصالية الأخرى. وكان الحدث فعلا بتأسيس “المهرجان الأول للإذاعة التونسية” بمناسبة احتفالية الإذاعة بالذكرى السبعين لانبعاثها، تحت شعار “سنة السبعين سنة”، وباعتماد بداية شهر جوان من كل سنة موعدا قارا للدورات المتتالية لهذا المهرجان الحدث الذي لم يكتب له أن يحيى أكثر من دورتين اثنين (4-5 جوان 2008 و 4-5 جوان 2009).
حقق المهرجان في دورتيه مكاسب عديدة منها المباشرة ومنها غير المباشرة، وجمع حول الإذاعة التونسية وسائل الإعلام العمومية والخاصة في الوطن ووسائل أخرى جاءت من بلدان صديقة وشقيقة لتواكب الحدث بكل فقراته ولتشارك، خاصة، في الندوتين التين أقيمتا بمقر اتحاد الإذاعات العربية، الأولى حول موضوع “إعادة ابتكار الإذاعة” والثانية حول “الإذاعة وتحديات وسائل الاتصال الحديثة”. وقد شارك في هذه الندوة الثانية المفتوحة على أسئلة الحداثة الإعلامية والاتصالية عامة وموضوع الإذاعة الرقمية خاصة، ما لا يقل عن خمسين مشاركا من 18 دولة في أوروبا وجنوب حوض البحر الأبيض المتوسط.
كما تم في كل دورة طبع كتاب مرجعي يؤرخ الأول للإذاعة في عيدها السبعين ويحمل عنوان “الإذاعة التونسية، سنة من سبعين سنة” ويؤرخ الثاني للمسرح الإذاعي، على أساس مواصلة السلسلة ومن خلالها دعم التوثيق للإذاعة والتفكير في مستقبلها وفي سبل ملاءمتها حركة التطور في مختلف المجالات.
وفي نفس الرؤية التي لا تنسى الماضي، بل تستلهمه لتثمين القيم الثابتة ولاستشراف الأهداف والطرق الناجعة على درب المستقبل والنمو، أقيم، في الدورة الأولى والتأسيسية للمهرجان، معرض الإذاعة الأول شاهدا على تاريخها، بمختلف مراحله ومظاهره، وازدانت قاعة العروض بشارع الحبيب بورقيبة بالآلات والصور القديمة للإذاعة، في إخراج أنيق وشيق جعل الرواد، من بين الشخصيات البارزة ومن كافة شرائح المجتمع، يتواترون عليها بانتظام لمدة العرض (12 يوما) ويأخذون الصور التذكارية ويقرؤون التعليقات المصاحبة ويمضون الكتاب الذهبيّ للإذاعة. أما الدورة الثانية، فقد خصصت لمعرض المسرح الإذاعي، في نفس القاعة وبنفس النجاح.
نشأ عن المعرض الأول فكرة متحف الإذاعة، بما في كلمة “متحف” من معان وأهداف، واحتفظ بكل مكونات المعرض في فضاء خاص بمبنى التلفزة التونسية، وقتيا. ثم انكبت لجنة أحدثت للغرض على دراسة المشروع من كل جوانبه فانتهت إلى تخصيص فضاء غير مستعمل بدار الإذاعة ليحتوي المتحف بعد إعادة تهيئته وتجهيزه، ورصدت لتلك العملية التأسيسية الميزانية اللازمة مأخوذة من العائدات الإشهارية التي عرفت نموا لافتا بين سنتي 2008 و 2009، وأعد للمشروع المثال التوجيهي الأولي على اعتبار الانطلاق في الإنجاز قبل موفى 2009.
ولما كان من أهداف المهرجان تحفيز العاملين في القطاع بتثمين جهودهم وأعمالهم المتميزة وحثّهم على مواصلة الاجتهاد للابتكار والتجديد والاستشراف، نظمت إدارة المهرجان مسابقات للبرامج الإذاعية في عدة اختصاصات ومسابقات للمنشطين الإذاعيين، مفتوحة للقطاعين العام والخاص، حكّمت فيها لجان مختصة بالتفاعل والتكامل مع الجمهور الذي ساهم في الاختيار عبر الرسائل الإلكترونية القصيرة (SMS). وقرّرت تسليم الجوائز في حفل موسيقي وغنائي تونسي يؤثثه وجوه بارزة من الساحة الفنية، من شرائح عمرية مختلفة، بمصاحبة من فرقة الإذاعة للموسيقى التي أعيدت هيكلتها وتم ترشيد التصرف في شؤونها بعد أن آل الإشراف عليها إلى الإذاعة التونسية عند الفصل بين الإذاعة والتلفزة.
من جهة أخرى، تقرر ألا يحجب الحدث المركزي ذو الإشعاع الدولي حاجة الإذاعات الجهوية للتميز والنشاط والإشعاع، ولذلك توزعت الندوات الدورية للإذاعة على مختلف المحطات الإذاعية العمومية وتنقلت من الكاف إلى تطاوين، مرورا بالمنستير وقفصة وصفاقس، بالإضافة إلى الندوات التي تلتئم في العاصمة وكانت برمجة كل الندوات تحتوي ندوة قطاعية لتعميق التفكير في شتى قضايا القطاع وتحتوي اجتماعا لمجلس المؤسسة الموسع يتم فيه تدارس مختلف الإشكاليات المطروحة أمامها واقتراح الحلول والتصورات الكفيلة بتحقيق وضمان حوكمة رشيدة للمؤسسة وسياسة اتصالية فاعلة.
ولما كان للأرشيف الإذاعي القيمة التي يدركها الجميع والتي تتناقض مع الحالة المزرية التي كان عليها ومع إتلاف قسط منه، تمت هيكلة إدارة فرعية للأرشيف والرقمنة لتعمل بانتظام على تحقيق المحافظة على كل ما يمكن أن يتوفر من الأرشيف الإذاعيّ حسب تنظيم يأخذ بعين الاعتبار الأولويات الاستعجالية. وفي ذات السياق، دعيت مختلف الإذاعات العمومية إلى إعادة استغلال الأرشيف في برامجها بالطرق الحديثة المشوقة والمثيرة لاهتمام المستمع، فتكون البرامج، بذلك الحال، دعامة هامة لعملية الرقمنة. بالإضافة إلى ذلك، كانت كل دورة من مهرجان الإذاعة وكل احتفالية وطنية بمئوية فقيد من الساحة الفنية والإذاعية مناسبة لإصدار علب فاخرة لأقراص مضغوطة من أعمال الفقيد، وهي أيضا مناسبة تتم فيها صيانة أعماله بالطرق الرقمية الحديثة (نذكر بعلبة “مختارات من الأغاني التونسية”، ثم “الهادي الجويني” و “صليحة”).
ساهم مهرجان الإذاعة التونسية في إشعاع الإذاعة التونسية دوليا، بصفتها الإذاعية، إذ أن مؤسسة الإذاعة والتلفزة كانت هي أيضا تحظى سابقا، في هيكلتها المزدوجة، بإشعاع محترم وبمصداقية لا يستهان بها. إلا أن الحضور المتميز والفاعل للإذاعة التونسية في المهرجانات والملتقيات الدولية القطاعية، جعلها تنتخب، في أفريل 2008، لنيابة الرئيس في المؤتمر الدائم للسمعي البصريّ (COPEAM)، ثم تنتخب لنيابة رئيس الاتحاد الدولي للإذاعة والتلفزيون (URTI)، بداية شهر ماي 2009، شهرين قبل تغيير رئيس مدير عام الإذاعة التونسية (29 جوان 2009)، وتم، على أساس الانتخاب الأول، إعادة تثبيت انتخاب الإذاعة في ذات الخطة (بطلب من إدارتها العامة) في جلستها التي انعقدت يومي 20 و 21 أكتوبر 2009.
وتجدر الإشارة إلى أنه، رغم هشاشة الوضع الاجتماعي للقطاع ورغم تشنّج العلاقة بين السلطة والهياكل النقابية، اتسمت العلاقة الداخلية بين الإدارة والنقابات بما هو ممكن من التفاهم والاحترام المشترك وخير دليل على ذلك، الاجتماع المشترك بين النقابة وإدارتي الإذاعة والتلفزة، بمقر الإذاعة، وبحضور أمين عام مساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، يوم 28 جوان 2009 (يوم واحد قبل تغيير رئيس مدير عام الإذاعة). امتد التفاوض على كامل اليوم من التاسعة صباحا إلى التاسعة مساء حيث تم الاتّفاق بين جميع الأطراف وأمضي الاتفاق الذي يحتوي خصوصا تسوية الأوضاع الهشة للعاملين بالمؤسستين حسب جدولة موزعة على ثلاث سنوات.
أما اليوم، يبقى أمل الإذاعة التونسية في مستقبل أفضل رهين التفاف الصفوف وتكاتف الجهود قصد الاستفادة من إيجابيات الماضي واستنباط سبل جديدة تستجيب لطموحات الشباب وتستنير بما تحقق لتونس اليوم في مجال حرية التعبير والابتكار والتفكير.
منصور مهني
رئيس مدير عام الإذاعة التونسية لفترة:
30 أوت 2007 – 29 جوان 2009